قال تعالى : {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا , فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا , وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا}
ثم بيّن الخضِرُ عليه السلام سبب مقتله للغلام , بأنه كان كافراً , وخشي أن يتسبب في فتنة والديه المؤمِنَين , فقتلَه ليبدلهما الله تعالى خيراً منه .
وقوله : أبواه : الأبوان هما الأب والأم , والتثنية هنا للتغليب , ومعنى التغليب : أن يصاغ من المثنى من لفظ أحد المثنَّيَيْنِ تغليباً له , كما قالوا في : أبي بكر وعمر ( العُمَران ) , وفي : التمر والماء : الأسودان , وفي الشمس والقمر : القَمَران ..
قوله : يرهقهما : أي يجلب لهما الرَّهق وهو التعب والعنت والمشقة .
وفي هذا دليل على أن الكفر والعصيان مشقة وعنت وضنك في الدنيا , وإن تظاهر أهله بالسعادة كما قال تعالى : {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (124) سورة طـه .
قوله : خيرا منه زكاة : أي أزكى وأصلح وأتقى .
وأقرب رُحما : أي أكثر وصلا لوالديه , لأنهما أعظم الرّحِم .
ثم بين الخضر أسباب إصلاحه للجدار , والمعنى فيها ظاهر , ولكن قوله : يتيمين :
اليتيم من توفي والداه أو أحدهما , ويرى بعض العلماء أن اليتيم من الآدميين من توفي أبوه فقط , ومن البهائم من توفيت أمُّه .
وكان أبوهما صالحاً : قيل كان أحد أجداده , وفيه دلالة على أن صلاح الأب صلاح للذرية وحفظ لهم .
قال محمد بن المنكدر : إن الله يحفظ بصلاح العَبد ولدَه , وولد ولَدِه .. .
وقال سعيد بن المسيِّب : إني لأصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي .
قوله : " وما فعلتُه عن أمري " أي ما فعلتُه باختياري ورأيي , بل بأمر الله تعالى وإلهامه .
وقفات لغوية :
قوله : " أما السفينةُ ,, وأما الغلام .. وأما الجدار "
أمَّا : هنا حرف تفصيل فيه معنى الشرط , ويقع بعده الاسم غالباً .
فإن وقع بعده اسم مرفوع , فهو مبتدأ , وتدخل الفاء على خبر المبتدأ , لأن الفاء تدخل بعد الشرط , فكأن الخبر جاء جوابا للشرط المستفاد من ( أمَّا ) فدخلت عليه الفاء . كما في هذه الآيات : أما السفينةُ فكانت ... وأما الغلامُ فكانَ ..
وقال الشاعر :
ولم أرَ كالمعروف , أمَّا مذاقُه ,,, فحُلوٌ , وأمَّا وجْهُه فجميلُ
وإن وقع بعد ( أمَّا ) اسم منصوب , فالغالب أنه مفعول به لفعل بعده , وتدخل الفاء على الفعل لأنه جواب الشرط المستفاد من ( أما )
كما قال تعالى : " فأما اليتيمَ فلا تقْهر , وأما السائلَ فلا تنهر "
فاليتيم : مفعول به منصوب للفعل : تقهر ,, والسائل : مفعول به منصوب للفعل : تنهر .
قوله : " السفينة , الغلام , الجدار " أل هنا في الكلمات السابقة تسمى أل العهدية
والعهد هنا هو العهد الذكري
لأن العهد ثلاثة أنواع :
1. عهد ذهني : وهو أن يكون المذكور معهودا في ذهن السامع والمتكلم , كأن يقول الأب لولده : هل اشتريت الكتاب ؟ فيقول الابن : نعم , فأل في الكتاب : للعهد الذهني , لأن الابن كان يعلم بالأمر في ذهنه , فجاءت ( أل ) تعريفا وتذكيرا له .
2. عهد ذِكري : وهو أن يكون الاسم مذكورا في السياق , فيكرر مرتين , الأولى بالتنكير , والثانية بالتعريف بأل , للدلالة على أن الثاني هو الأول , كما تقول : زارني ضيفٌ , فأكرمتُ الضيفَ , فالضيف الثاني هو الأول , ومنه قوله تعالى : {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا , فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } (15-16) سورة المزمل , فالرسول في الآية الثانية هو الرسول في آخر الآية التي قبلها , وأل فيه للعهد الذكري , لأنه مذكور في السياق , ومنه الكلمات السابقة : السفينة – الغلام – الجدار , فأل هنا للعهد الذكري , لأنه سبق ذكرها في الآيات السابقة .
3. العهد الحضوري : وذلك إذا كان الاسم الذي دخلت عليه أل حاضرا في الزمان أو المكان , كما تقول لمن يركب معك سيارتك : هل تشتري السيارة ؟ أي هذه السيارة الحاضرة , ومنه قوله تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } (3) سورة المائدة , أي هذا اليوم الحاضر , وهو يوم عرفة .
قوله : كنز : المراد بالكنز إذا أطلق : كنز المال , ومنه قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (34) سورة التوبة
وقوله سبحانه : {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } (76) سورة القصص
وقوله سبحانه : {فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ , وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} (58) سورة الشعراء .
وقد يطلق الكنز على العلم , لكن بشرط القيد , فيقال : كنز علم .. قاله الزجّاج .
قوله : تستطعْ , وتسطِع ,,, سيأتي الحديث عنهما إن شاء الله في آخر قصة ذي القرنين .
والله أعلم .
فائدة : يوجد في تفسير السعدي رحمه الله فوائد مستنبطة من قصة موسى مع الخضر , يستحسن الرجوع إليها لمن أراد الفائدة .